ماجد الماجد
من تشاد شرقًا حتى المحيط الأطلسي غربًا، هكذا سطرت مملكة مالي ذاتها في الغرب الأفريقي كواحدة من أبرز الممالك الأفريقية عبر التاريخ، لمزيد من التصور والتقريب، فقد ضمت بين دفتيها ما يعرف حاليًا بـ موريتانيا والسنغال وغامبيا وغينيا وبوركينافاسو ومالي والنيجر وتشاد ونيجيريا.
لم تكن أفريقيا يومًا فقيرة، بل احتوت من الكنوز الطبيعية ما تنوء بحملها الجبال، لكن تداعت عليها الأكلة واللصوص، مملكة مالي في نهايات القرن الثالث الميلادي غنية وافرة الخيرات، الذهب فيها منثور في كل الأرجاء ومناجم استخراجه لا تكل ولا تمل في زيادة حصيلتها من الثراء والمنعة والقوة.
أبو بكر الثاني ملك مسلم استمر يفكر فيما ينتظره على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، لقد شرع في رحلته إلى الجانب الآخر محملًا بكثير من الآمال حول استكشاف ما وراء البحر، ومن ثم إضافة أراضٍ جديدة لمملكته، أبحر تاركًا تسيير أمور بلاده لنائبه مانسا موسى.
رحلة استشكافية مليئة بالفضول والخطر كذلك، لم يعد بعدها الملك أبو بكر ثانية إلى مملكته وانقطعت أخباره تمامًا، فتح هذا الأمر الباب أمام نائبه مانسا موسى كي يعتلي عرش البلاد بشكل كلي، لقد كان مسلما ورعًا مالكيً المذهب عالمًا بأمور دينه، وبجانب ذلك ما فتيء ينثر الخير في كامل أرضه.
استحالت حياة مانسا حزنًا وألمًا منذ أن قتلت أمه بسببه عن طريق الخطأ، ظل بعد هذه الحادثة يشرق ويغرب بحثًا عن آراء الفقهاء، إلى أن أشار عليه أحدهم برأي اطمأن له، تصدق واستغفر وافزع إلى رسول واطلب منه الشفاعة، وحتمًا سيغفر الله لك ما كان منك من ذنب.
بعد هذا الرأي عزم مانسا أن يذهب إلى مكة حاجًا، لكن ليس وحده، وإنما في قافلة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، يقدرها المُكثر من المؤرخين بنحو 60 ألف شخص، بينما يقدرها المقل بنحو 15 ألف شخص، هذا فضلًا عن الدواب والذهب والأمتعة والملابس الفارهة من الديباج والحرير اليماني.
انطلقت القافلة من تمبكت عاصمة مملكته نحو الحجاز، وفي كل مكان تنزل فيه، كان الملك يأمر بالعطايا والذهب لكل محتاج وسائل، بل بالغت بعض الروايات بالقول أنه كان يبني مسجدًا في كل مكان ينزل فيه يوم جمعة، وهي مبالغة مقبولة إذا اعتبرنا البناء تبرعًا بالبناء أو وضعًا لحجر الأساس.
مصر تلوح من بعيد لكل حاج إفريقي كمحطة أساسية ينزل فيها من أجل تجديد المؤونة وتحديث الزاد، لكن الأمر مع مانسا لم يكن كذلك، لقد نزل مصر نزول البرد من السماء، موزعًا العطايا ومدهشًا بمشهده كل رأٍ، حتى دونه المؤرخون مثل المقريزي وابن خلدون كاستثناء تاريخي وندرة من النوادر.
في 16 رجب سنة 724هـ بالتحديد حطت رحال مانسا في القاهرة، وقد كانت حينذاك عاصمة لدولة المماليك القوية، أقام الرجل مع قافلته تحت الأهرام ثلاثة أيام، قبل أن يمضي للقاء السلطان محمد بن قلاوون، والذي رغم أنه لم يعامله كند وملك، إلا أنه أكرم وفادته ووفر له كل ما يريد.
استمر الملك الأفريقي في بذل عطاياه وذهبه على الجميع، وأغدق على أهل مصر بالذهب كما لم يغدق في أي مكان آخر، الأمر الذي تسبب في انخفاض قيمة الدينار الذهبي حينذاك بنحو ستة دراهم، لدرجة أن الأمر تطلب 12 عاما ليعود الوضع الاقتصادي إلى طبيعته في مصر.
بالطبع ليس ثمة تحديد لمقدار ما كانت قافلة مانسا تحمله من ذهب، فمصدرنا الوحيد لتحديد ذلك هي بعض الروايات التي تفوح منها رائحة المبالغة،فبينما ابن خلدون يقدرها بثمانين حملًا من الذهب زنة كل حمل ثلاثمائة رطل، فإن ابن فضل الله العمري يقدرها بمائة، لكن على كلٍ فقد كان ذهبًا كثيرًا جدا
حين مغادرته مصر متجهًا للحجاز، أمر سلطان مصر المملوكي بركب مساعد للقافلة ييسر عليها الطريق ويذلل لها الصعاب، وقد ترأس هذا الركب الأمير سيف الدين أيتمش، وقد انضم إلى هذه القافلة حجيج كثير ممن تلاقوا معها على طول الطريق، وقد عاملهم الملك بتواضع وسخاء بالغ.
من مشاهد سخاء مانسا موسى التي ذكرها المؤرخين كذلك؛ هي تعامله مع الدليل الذي كان بصحبته والذي حصل منه على نحو مائة مثقال ذهب، وعندما وصلت القافلة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة بذل الملك الأفريقي كثير من الأموال، كما تصدَّق بذهب كثيرٍ على الحجيج والسائلين.
لم تكن هذه رحلة عبثية في نظر مانسا موسى، فعلى المستوى التاريخي خط اسمه في مصنفات المؤرخين كعلامة بارزة، وفي الثقافة الشعبية عُدّ لدى الناس كأسطورة شعبية ظل الجميع يتحاكى بها، وعلى المستوى السياسي مهد لعلاقات قوية ومتينة مع الدولة المملوكية صاحبة السيادة آنذاك.
مثلت زيارة مانسا وقافلته كذلك اختراقًا لصفحات التاريخ، والتي عرفت أخيرًا عن أفريقيا وما نشأ فيها حينذاك من ممالك قوية بيضت بيدها أحوال الناس ويسرت عليهم حياتهم، كما أبانت عن ذلك الشوق الفطري لمسلمي تلك الأقطار نحو منبت دينهم ومدنه المقدسة.
في رحلة عودته من الحجاز، ظل الرجل ينفق بسخاء إلى تلك الدرجة التي نفذ فيها ما لديه من أموال، حتى أن بعض الروايات تذكر أنه استدان في الطريق، وعاد معه إلى بلاده نفر كثير ينتظرون منه أن يوفيهم حقوقهم وما اقتطع منهم من حاجيات وزاد.
لم ينس الرجل خلال رحلة عودته أن يشتري كتبًا لا حصر لها، وأن يسأل ملك مصر بعضًا من مهندسيه ومعماريه، والذي لم يضن عليه بهم، فوفدوا معه إلى مملكة مالي وغيروا وجه المعمار هناك، وبقى مسجد جينجريبر من وقتها حتى اليوم شاهدًا على ذلك العصر المشرق لأفريقيا ومالي.